اخبار فنيةخاص لبنان والعالممن القارىء

فيلم “The Room Next Door” : على بُعدِ خطوة من الموت…تتألق عبثية الحياة على الطريقة الألمودوفارية!

فيلم “The Room Next Door” : على بُعدِ خطوة من الموت…تتألق عبثية الحياة على الطريقة الألمودوفارية!

 

في الغرفة المجاورة حنينٌ لما مضى وفزعٌ مما هو قادمٌ لا مُحالة…

حياة أشبه بموتٍ بطئ وموت أشبه بحياة لا يليقُ بها إسمها!

في الغرفة المجاورة…صداقة متألمة تدور حزناً في أطياف بؤس الذكريات السعيدة مفتوحة الأطلال على مصراعيْها خلف لحظة وداعٍ حاسمة تترجم عبثية الحياة وحقيقتها الأشد واقعية وقهراً!

الحقيقة التي يُصعب تقبلها في الكثير من الأحيان أو بالأحرى على الدوام!

يتحفنا المايسترو الإسباني بيدرو ألمودوفار مرةً جديدة بفيلمٍ ملئ بالعمق الإنساني والفلسفي، حيثُ يتناول في فيلمه الجديد الموضوع الشائك “مسألة الموت الرحيم”، الركيزة الأساسية التي بنيت عليها قصة الفيلم وجماليات سرده، عبر حكاية صداقة بين إمرأتين، واحدة منهما تعاني من مرض السرطان المزمن وتقترب من النهاية الحتمية بينما الأخرى تجد نفسها في موقفٍ محفوف بالمشاعر المتناقضة المولدة لصراعٍ داخلي وجهاً لوجه مع المفاهيم الإجتماعية والأخلاقية والدينية حول “الموت والقتل الرحيم”،

بين الموافقة على الرغبة الملحة لصديقتها بإنهاء عذابها أو التمسك بالأمل في سبيل إنتظار معجزة إلهية أو علاج رباني عجز عنه الأطباء بإمكانه تغيير كل شئ!

ألمودوفار البارع بمعالجته للقضايا الإنسانية المعقدة والحرجة مثل الهوية الجنسية والحرية الشخصية والمسائل النسائية وهو أفضل من كَرّمَ المرأة في تحفه السينمائية وطرح همومها ومشاكلها بأسلوبٍ تقديري حساس منصفٍ لها ولشخصها الكريم، يسلط الضوء هنا على الموت الرحيم كحق من حقوق الإنسان في النهاية و”تفاهة” الحياة التي يمكن أن يشعر بها كل مريض في مراحل حياته الأخيرة مما يدفعه إلى السعي وراء “حريته الشخصية” في إتخاذ قرار وضع حد لأوجاعه!

شدّدَ بيدرو على تقديس الحرية الفردية وحق الإنسان في تقرير مصيره وعكس من خلال أفكاره ومعتقداته الحُرة وعينه البصرية المتأنقة “الواقع” الذي يعيشه الكثيرون عندما يتعلق الأمر بالقرارات الكبرى المصيرية المتعلقة بالحياة والموت.

لم يقتصر الفيلم فقط على “الموت الرحيم” بل عزّزَ بيدرو أيضاً تبعياته وغاصَ في النفس البشرية متغلغلاً بها أثناء بحثها عن معنى للحياة التي تفقدها رويداً رويداً في عالمٍ يبدو أنه لا يمنح أي إجابة تُشفي غليلنا منه!

إذ أكد ألمودوفار أن “العبثية” لا تكمن في المعاناة الجسدية فحسب، بل في المفهوم العام للوجود. فالنهاية آتية آتية ولو قررنا بأنفسنا مجيئها باكراً، أبكر من ميعاد القدر…يبقى “فناء” الحياة” هو العنوان الأول والأخير لمشوارنا على الأرض ونقطة الإنطلاق عند بيدرو في خلق بصمته الألمودوفارية التي لم تفارقه كما هو الحال مع كل فيلم له. حالة الإبداع المتوهجة بإقتدار ووقار سينمائي لا مثيل له والمعتادة منه في “سينماه الألمودوفارية” هي نفسها في أول فيلم روائي طويل له باللغة الأجنبية (غير ناطق باللغة الإسبانية) بعيداً عن وطنه الأم!

بمنهجه السينمائي المميز، أبدع ألمودوفار بتكوين عالمٍ بصري ملئ بالرمزية, تشابكت ألوانه الزاهية مع الظلال الداكنة المعبرة عن نمط الفيلم وقصته المتشبعة حزناً وإنزواء.

الشخصيات قليلة ولكنها بالغة الثراء في المضمون والغنى الدرامي الكثيف، يستخدم بيدرو المساحات الضيقة في الغرف كإستعارة سينمائية لعزل بطلاته عن العالم الخارجي ما يعكس شعورهم بالضياع والإغتراب.

مشهد تلو الآخر يتقلص الفضاء الخارجي في الفيلم، وكأنه يبقى محتجزاً مع الشخصيات المحاصرة في مكانٍ مغلق وغرفٍ متقوقعة…إحداهنّ غرفة مجاورة تظل رُكْنَ الشهادة على إنهاء حياة وإستقبال موت!

كذلك “الثلج” الذي توارد عدة مرات في الفيلم إن كان بصرياً أو شفاهياً عندما تغنى به ألمودوفار على لسان شخوصه عبر أغنية للملحن الإسباني ألبرتو إجليسياس “Snow is falling upon the living and the Dead”.

الثلج في تحفة بيدرو يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالموت والحياة ويتجلى بينهما بالتناقض والتشابه، بالتشاؤم والتفاؤل.

الثلج ببرودته وصمته يرمز إلى الموت والنهاية إنما في الوقت نفسه يمكن أن يُنظَر إليه كرمز للتجدد والنقاء حيثُ يغطي الأرض وينعشها ليعطي الحياة مجدداً…تلك الحياة برزت في المشهد الختامي من الفيلم على وَقْعِ تساقط الثلوج كالحياة الثانية بعد الموت.

التمثيل المذهل من قبل جوليان مور وتيلدا سوينتون ساهم في إضافة نقاط القوة الكبرى على الفيلم بأكمله.

القدرة على نقل الحزن والقلق والترقب والخوف وفيضانٌ من الأحاسيس المربكة الشاعرية الإنفعالية عبر العيون فقط دون الحاجة إلى المشاهد الحوارية الطويلة، إحدى أهم العناصر التي جعلت من الفيلم تجربة سينمائية مؤثرة نتعلق بها بكل حواسنا ونعيدُ مشاهدتها مراراً وتكراراً.

الفيلم ليس مجرد دعوة للمناقشة حول الموت الرحيم بل هو تأمل في الحياة نفسها، في المعاناة الإنسانية، وفي ذروة اللحظات التي يصبح فيها خياراً واحداً كافٍ لعبور نقطة اللاعودة.

أَسْكَنَ بيدرو ألمودوفار فيلماً آخر لا يُنسى إلى قائمة سلسلة أفلامه الراسخة في موسوعة السينما…

وكيف لا ؟! وهو عرابها! وأباها الروحي الذي لا يهدأ ولا يستريح ولا يكف عن الجريان الإبداعي حتى يصل بكل شغفه إلى مكنونات أحاسيسنا وصميم حياتنا ومنبع واقعنا.

“سينما بيدرو” مرآته…وغدت مرآته مرآتنا جميعاً!

إيلي طايع

 

 

 

 

 

 

إقرأ أيضاً

قبل ختام السنة…هل كان فيلم “The Substance” كابوس سينمائي في ماراتون أفلام 2024 ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى