من هنا وهناك

طيور تهاجر بدقة “الساعة” والسر في جهاز وزنه غرام

في غابة صغيرة شمال جزيرة زيلاند الدانماركية، أطلق الباحثون طائرا لا يزيد وزنه على بضع عشرات من الغرامات بعد تثبيت جهاز أصغر من ظفر الإصبع على جسده.

ويبدو المشهد عاديا، إذ يغيب الطائر بين الأشجار، لكن ما يحمله على ظهره يحول الغياب إلى قصة مكتوبة بالدقيقة والثانية، إذ صار ممكنا للعلماء أن يعرفوا: متى طار؟ وكم ساعة؟ وكم ليلة؟ وفي أي مراحل متتابعة؟

هذه هي فكرة الدراسة التي قادها فريق من جامعة لوند في السويد على طائر “الصرد أحمر الظهر”، أحد الطيور المغردة التي تهاجر سنويا بين شمال أوروبا وجنوب أفريقيا.

النتيجة التي شدت الانتباه ليست فقط طول الرحلة، بل مدى انتظامها، فهذه الطيور لا تبدو كمغامرين يتبعون الحدس، بل كمسافرين لديهم جدول داخلي شديد الانضباط، حسبما أورد الباحثون في دراسة في دورية “بروسيدينجز أو رويال سوساسيتي بي”.

جهاز بوزن جرام واحد مكن العلماء من فهم هجرة الطائر (جامعة لوند)
جهاز بوزن غرام واحد مكن العلماء من فهم هجرة الطائر (جامعة لوند)

عندما يصبح العام كله قابلا للقياس

لطالما كانت هجرة الطيور الصغيرة لغزا تجري ملاحقته بنصف أدوات، فإما يستخدم العلماء حلقات تعريف حتى يحددوا الطائر المستهدف قبل وبعد الهجرة، أو يستخدمون أجهزة تتبع أثقل من أن تتحملها الأنواع الصغيرة، فيحصلون على بيانات متقطعة لا تقول ماذا حدث بين نقطتين على الخريطة.

لكن الجديد هنا هو مسجّل بيانات متعدد الحساسات، يزن نحو 1 غرام، ويسجل النشاط على مدار الساعة طوال العام تقريبا. هذا الوزن، في عالم الطيور الصغيرة، هو الفارق بين “فكرة جميلة” و”تجربة ممكنة”.

في الدراسة، استخدم الباحثون هذه الأجهزة لتسجيل توقيت ومدد كل رحلات الطيران المهاجرة خلال الدورة السنوية لدى 15 فردا بريا من الصرد أحمر الظهر.

وبالاعتماد على بيانات النشاط وبصمات الطيران الليلي، رسم الباحثون ما يشبه مخطط سنوي دقيق لكل طائر يظهر أين تتكدس رحلات الطيران ومتى تحدث فترات التوقف، فالطائر لا يقطع المسافة كلها في رحلة واحدة.

برنامج دقيق

حين وضعت البيانات جنبا إلى جنب، لم تظهر الهجرة كسلسلة ليال تفرقة فحسب، بل كأنها مقسمة إلى مقاطع واضحة تتكرر بين الأفراد، فهناك دفعات طيران متقاربة في التوقيت، تليها توقفات، ثم دفعات أخرى من الطيران، وكل ذلك بقدر منخفض من الاختلاف بين طائر وآخر، بشكل قريب من دخول قطار إلى المحطة بعد خروج آخر.

وصف الباحثون هذا التنظيم بأنه “مهيكل جدا”، إلى درجة أنه يمكن تمييز المقاطع عند جميع الأفراد تقريبا.

هذا مهم لأن التجارب الكلاسيكية على الطيور في الأقفاص كانت قد دعمت فكرة وجود برنامج وراثي سنوي يضبط توقيت “قلق الهجرة” واتجاهها ومسافتها بشكل عام.

قلق الهجرة هو اصطلاح يعني ظهور أعراض توتر واضحة عند الطيور في مواعيد الهجرة السنوية، تدفعها لبدء الهجرة في نفس الموعد كل عام، ما يعني ارتباطا وراثيا، أي أن الطيور المهاجرة تمتلك جينات داخلية تحثها على الهجرة.

برنامج أكثر تفصيلا

لكن بيانات الطيور الحرة في الطبيعة، بحسب الدراسة الجديدة، توحي أن البرنامج قد يكون أكثر تفصيلا، ليس مجرد “اذهب جنوبا لمسافة كذا”، بل “اذهب على خطوات، وبإيقاع محدد”.

في هجرة الربيع، وجد الباحثون أن الاختلاف في إجمالي زمن الطيران بين الأفراد حوالي 6% فقط، على الرغم من أن كل طائر طار في المتوسط نحو 270 ساعة موزعة على 43 رحلة ليلية وقطع أكثر من 11 ألف كيلومتر.

وفي موسم الذهاب إلى مناطق الشتاء في جنوب أفريقيا، يشير بيان صحفي رسمي صادر من الجامعة إلى أن الرحلة تستغرق نحو 190 ساعة موزعة على 30 رحلة، أي أن العودة ليست مجرد إعادة تشغيل للرحلة نفسها؛ هناك اختلافات موسمية في نمط الحركة.

تخيل الآني: طائر يزن 25–30 غراما يقطع المسافة بين قارات في أيام، ثم ترى أن “ساعات الطيران” التي يختارها لا تتبع نمطا عشوائيا، بل تشبه توقيت قطار يلتزم بمحطاته.

دور للجينات ودور للبيئة

يدفعنا ذلك للتساؤل: هل الجينات تؤسس لخطة الطيران؟ تفسير الفريق لا يقول إن الطيور روبوتات، ولا ينفي دور الرياح أو الغذاء أو المخاطر، لكنه يقترح شيئا أدق، وهو أن هناك خطة داخلية تفصيلية تُنفّذ عبر تحكم قوي في توقيت خطوات الهجرة.

وتذهب الدراسة إلى أن هذا التحكم قد يعمل كمنظومة تغذية راجعة تمزج الخطة الداخلية (تلك التي ورثتها الطيور عن آبائها)، مع إشارات خارجية مرتبطة بالمكان والزمان والحالة الغذائية، لتنظيم الانتقال من مقطع إلى مقطع، بحيث في المجمل تنتهي الرحلة في الموعد المحدد تماما، لكن في داخل الخطة يكون لكل طائر جانب من “حرية التصرف” بحسب الوضع القائم.

بعبارة أبسط، ربما يرث الطائر السيناريو الرئيسي من أبويه، لكن التنفيذ يحتاج أن يقرأ الطقس، والوقود (الدهون)، ومواعيد المواسم، وربما معالم جغرافية، ثم يقرر: هل الآن وقت دفعة الطيران التالية أم أنتظر قليلا؟

زر الذهاب إلى الأعلى