مسلسل “لام شمسية” : اللام لن تعود شمسية…ليس بعد الآن!

مسلسل “لام شمسية” : اللام لن تعود شمسية…ليس بعد الآن!
كتب إيلي طايع في موقع “لبنان والعالم”
من المعيب مناداته فقط بكلمة “مسلسل” وحصره في خانة الدراما التلفزيونية وحسب، بل يتجاوز تلك التسميات كونه يتعدى مراحل الترفيه المتعارف عليها بأنها الهدف الأول والأخير من الفن البصري…ويغوص بعبقرية نادرة في حقول قضية إنسانية وإجتماعية خطيرة يخشى الكثيرون التطرق إليها والإقتراب من عوالمها المخيفة،
مما جعله يحلق ليس فقط خارج السرب إنما بعيداً جدا عن السرب ويلاقي إنبهاراً هائلاً بجرأته ومستواه الفني المذهل مسطراً كيانه الدرامي كأفضل عمل مصري وعربي في آخر عشر سنوات إن لم يكن الأهم والأجمل والأعظم في تاريخ الدراما العربية إذ لم يفسح المجال لأدنى شك بتميزه وتفرده وإختلافه بفارق كبير عن البقية.
افتُتح ستار “الإبداع” بالبدء من الإسم “لام شمسية” وعرض ظاهرة التحرش بالأطفال (البيدوفيليا)، رفع صوت المسكوت عنه وكشف المستور…مستور ما هو مخفي عن العيون ومخبأ بين السطور…حاضر…ندرك تماماً وجوده لكن لا ننطقه تماماً كاللام الشمسية…اللام التي تُكتب ولا تنطق…اللام المرئية غير المنطوقة…
بواقعية صادقة بصدقها المفزع، إنتاج العمل لم يكن إطلاقاً من باب الإستسهال ومرور الكرام…إزاحة الغطاء عن جراح الطفولة المستترة صنع إحدى أنضج الأعمال الفنية وأكثرها إكتمالاً ولا مبالغة إن قلت أنها تمادت إلى ما هو أبعد وأقوى وأكمل من مفهوم الكمال نفسه!
الإضاءة على منطقة مرعبة مهملة درامياً بقالب درامي مشوق وإيقاع تصعيدي ينافس مهارة التوتر على بلوغ ذروتها، وضعت المشاهد أمام حكاية أخلاقية وإجتماعية شائكة نخاف في الكثير من الأحيان حتى التفكير بها للحظة، بملامسة لب القضية من أعماق جذورها وآثارها قريبة وبعيدة المدى فكم من طفل ينتظر لحظة الخلاص، يلهث وراء يد العون لتُمد له كي يبوح بما اقترفته به الشياطين الإنسية.
لأول مرة يتم التطرق لموضوع التحرش بالأطفال بهذا الكم الهائل من الدقة والمهنية والفهم والثقافة حيثُ يسطع ظلام الأبعاد الحقيقة لهذه الجريمة وتبعياتها على الضحية والجلاد ومن حولهم…وكل هذه المتعة الدرامية الهادفة والرسالة السامية وراء التحفة السردية المرئية الواعية ما كانت لتكتمل دون إحترافية مدروسة في طرح الموضوع الصادم والتأني بمعالجته الحساسة والغير نمطية من قبل الكاتبة مريم نعوم وورشة سرد، وتصويره على الشاشة تحت قيادة المخرج البارع كريم الشناوي عبر إهتمام ملحوظ بالتفاصيل الحسية البصرية التي أثرت المشهد الدرامي من إضاءة وديكور وألوان ورمزيات وكادرات فنية بديعة وذواقة للعين الثاقبة المنبهرة بجودة ما تراه أمامها رغم طغيان الأجواء المشحونة بالقبضات النفسية المتناوبة من مشهدٍ تلو الآخر بأداء تمثيلي من الجميع دون أي إستثناء أقل ما يقال عنه أنه “إعادة إكتشاف” لهم كممثلين مخضرمين تفوقوا على موهبتهم التي بدت وكأنها للمرة الأولى تظهر حيث لم تكتف فقط بالظهور بل وصلت إلى أعلى درجات المثالية التمثيلية الخالية من أي ثغرة داخل زاوية تمثيل محفوفة بمخاطر التعبير النفسية…شعرة بينها وبين التصنع…أجرموا صناع التمثيل في تفكيكها ودعسها ليتراءى الصدق خلاقاً فعلياً نابعاً من جمرة عيونهم قبل التفوه بعمق الحوار المرصع بألماسة أحاسيسهم! كذلك يشهد العمل بزوغ موهبة إعجازية للطفل علي البيلي مبشراً بمشروع نجم كبير ينتظره مستقبل عظيم في الساحة التمثيلية. كذلك إبداع مذهل من الممثل محمد شاهين الذي يؤدي دور “المتحرش” بلعبٍ تمثيلي أوسكاري وأكثر!
في ظل ركوب موجة التريند الهابطة والتهريج الدرامي الهزلي المعتمد على معترك العشوائيات والبلطجة ولهفة الكثير وراء الأرقام ونسب المشاهدة والمراتب الأولى التي تقع في فخ التزييف وسطوة الكذب الإلكتروني أغلب الوقت، أقبل العمل بصلابة متينة ساخراً من تلك الموجة وفنائها في القريب العاجل، مؤكداً أن الفن المتزن يعيش وهذا العمل بتفانيه الإئتلافي نحتاجه الآن أكثر من أي وقت مضى، مرمماً الندوب التي لا يمكن التغافل عنها بعد اليوم وفارضاً نفسه كأداة توعية تقرع جرس الإنذار، إنذار الأوطان إنذار المجتمعات إنذار المدارس إنذار الأهل إنذار الإنسان…فإن الخطر قد يكون أكثر قرباً مما نظن وهناك أشياء خفية تحدث في الكواليس وذنوب تُرتكب خلف الأبواب المغلقة وتدفن مكانها كأنها لم تجترم! وجراح لم تندمل بعد رغم محاولات الإنكار والسكوت وإدعاء اللامبالاة، تظل محفورة في سلوك الضحية إن لم تتم معالجتها والتعافي من صدماتها.
بعض الفنون قد تنتج للترفيه فقط لكن يبقى للفن تأثير كبير على المشاهد وتبقى قوته بإمكانها ترك بصمة داخل النفس البشرية…
بصمة يثبت من خلالها لام شمسية أنه أكثر من مجرد مسلسل وأن الفن هو أيضاً رسالة وقادر على إحداث تغيير إجتماعي ونفسي وإنساني وكسر الحواجز المريبة وتحفيز الوجدان والفكر وتحصين الوعي الكامل حينما يدق ناقوس الخطر!
صناعة فنية مصرية عربية ستُخلد في الذاكرة…وستؤرخ في تاريخ الفنون…اللغة المشتركة بين شعوب العالم! اللغة التي لم تكن مباحة بل كانت طريحة التكتم ولكن بعد حين ستغدو صرخة يسمعها الأصم قبل المُنصت!
ما قبل لام شمسية بالتأكيد ليس كما بعده
وفيه وبه وبعده…اللام لن تعود شمسية…ليس بعد الآن!