“وحشتيني-Back to alexandria” : شط اسكندرية…يا شط الذكريات الدهرية!

“وحشتيني-Back to alexandria” : شط اسكندرية…يا شط الذكريات الدهرية!
كتب إيلي طايع في موقع لبنان والعالم
إستناداً إلى المقولة الشهيرة لمارتن سكورسيزي “الأكثر شخصي هو الأكثر إبداعاً” ثبّتَ فيلم “وحشتيني-العودة إلى الاسكندرية” هويته على أرضٍ صلبة حقيقية بسلاسة وإقتدار وأسلوب قصصي ممتع كشف عن جوانب إنسانية خفية من ذكريات مخرجه السويسري، مصري الأصل تامر روجلي.
القصة برمّتها مستندة على تجربة شخصية، مأخوذة من حياته وعائلته، لونها بعينه السينمائية الساحرة وبخياله الغزير ليحولها إلى نقطة إنطلاق نُقلت إلى السينما مدوناً من أعماقه لوحة بصرية متكاملة نابضة بالإحساس والواقعية زودت أول فيلم روائي طويل له بالكثير من المتعة والجمال.
هناك مجموعة من الأفلام يُطلق عليها “أفلام دافئة” – وإن كانت تركيبتها معقدة أو سوداوية بعض الشئ لكنها تدفئ روحك وتلمس قلبك بفجائية غير معتادة كذلك قبل إستعدادك لتلقيها أو إستيعابها جيداً. فهذا الفيلم واحد من تلك الأفلام الدافئة التي تميز بخلطة غامضة من المشاعر والعواطف المألوفة والغير مألوفة في آنٍ واحد، المحملة بوجوهٍ نفسية جديدة ليست عادية وبقايا من حنين عجيب كأننا لأول مرة نستشعر به، تسوده نكهة مستحدثة مشابهة لأريحية ورونق أفلام الأبيض والأسود!
تدخل الخيوط الدرامية بسرعة في لعبة الحبكة، بدايةً من رحلة الطبيبة النفسية “سو”(نادين لبكي) أثناء عودتها من سويسرا إلى وطنها الأم مصر بعد أن هاجرت لمدة ٢٠ عاماً وبعد علمها بتدهور صحة أمها(النجمة الفرنسية فاني أردانت) حيث تقضي الأخيرة أواخر أيامها على فراش الموت، وصولاً في الخاتمة إلى محطة البطلة النهائية، مسقط رأسها “مدينة الإسكندرية”.
وما بين البداية والنهاية…ليس هناك بداية حقيقية بل مجرد نهايات مستمرة كتبت أخيراً خير بداية للبطلة في نهاية الفيلم، ورافقتها في طريقها الوعر فأعادت لها ذكرياتها البائسة مع والدتها منذ الطفولة والصبا على أنغام الأغاني القديمة العريقة لفيروز وعبد الحليم حافظ ووردة ونجاة الصغيرة، إذ شكلت تلك الأغاني عطراً بالغ النقاوة مستمداً من روائح أيام الزمن الجميل وشوارع مصر الخلابة التي سطرت نفسها كعاموداً فقرياً لا يتجزأ ولا يمحى من ذاكرة كل من شاهد الفيلم وخُيل له أنه زار مصر بالفعل واشتم شذا أزقتها الأصيلة وشرب من نيلها وأمتع أنفاسه بهواء اسكندرية وشطها وبحرها!
تقف “سو” مشلولة العزيمة أمام أشباح ماضيها المحبط والتعسفي، تنفض الغبار لا إرادياً عما سبق وغادرت بسببه…انتهى ظاهرياً لكنه لم ينته داخلها، وأحيا في حاضرها المرهون بلوعة الأمس الروابط المكبوتة العسيرة في علاقتها الغير متوازنة بوالدتها.
بمجرد رجوعها يتحكم قبر الماضي بها من كل جانب، تنتظر منه الرحيل عنها علها تبدد مخاوفها تجاهه وتتخطاه وتستعيد ما ضاع من ذاتها في لحظة ربما أساءت تقديرها أو حُفرت في كتاب قدرها التي تعيشه وتهرب منه في الوقت نفسه!
“صاحبة العفوية المطلقة في التمثيل” كما وصفها مخرج الفيلم…”نادين لبكي”…إنها هنا بأروع وأبهى حالاتها التمثيلية أمام الكاميرا…تتخلى عن دورها كمخرجة وتلتصق بدورها كممثلة “حرباء” تجيد التلون الإحساسي المتناقض في الأداء التمثيلي من جوْفِ المشهد الواحد وفي الدقيقة نفسها المرممة بقوة تعابير ممثلة قادرة على سرد حكايات بعيونها فحسب، دون الحاجة إلى وفرة الكلام!
إلا أن المخرجة داخلها لا تنام بل تبقى عينها صاحية على الممثلة المدهشة التي تخرج من صلبها بفضل إدارة المخرج لها أولاً وإدارتها الإخراجية لنفسها تباعاً كممثلة بناءً على خبرتها الكبيرة في عالم الإخراج وكيفية إدارة الممثل!
إدارة تلو الأخرى قُدمت نادين في نطاق جديد على الشاشة الفضية كأن هذا الفيلم أعاد إكتشاف قدراتها التمثيلية البديعة وأكد مرة اخرى أن مستواها التمثيلي لا يقل أبداً عن مستواها الإخراجي…شخصية سينمائية شاملة للنخاع! نادرة الحضور والموهبة والتأثير والتألق في فضاء الفن السابع!
يقول المخرج “مصر تسكنني رغم إبتعادي عنها وإقامتي في سويسرا” وهذا ما تجلى بوضوحٍ سحري منذ اللحظة الأولى.
حبه لوطنه ارتقى به على سلالم المهارة الذاتية والعملية ليصنع فيلماً عربياً قلباً وقالباً يحاكي الروح ويغني العيون التواقة للبهاء والحسّ ويعطي لطبيعة مصر وأهلها وللمرأة المصرية بالخصوص ولذاكرته الحياتية بالمقام الأول، حقهم الكامل في تجسيد صورتهم بصدق وأمانة دون إفتعال ومبالغة.
فيلم عبارة عن رحلة طريق لا تشبه غيرها من أعداء الكار!
مثال يحتذى به بترجمة مشاعرنا وهواجسنا وذكرياتنا على الشاشة المتربصة أمام قلوبنا قبل عيوننا، ليُمسي(الفيلم) “سينما فاخرة ثمينة” يظل أثرها لامعاً وبريقها ساطعاً حتى لو حجبت عنها الأضواء!